"ســـيرة الحــــب فـــي أحـــــوال محـــــارب"

(سيرة الحب في أحوال محارب)

فيما يفترض أنها أسحر البقاع ببلادي كانت فهوة الموت الوحيدة .. وفيما يفترض فيه

أعذب الأماكن وأنداها خضرة على الإطلاق كان ساحة الحرب الكبيرة.

ضراوة القتال تعني أن البقاء على قيد الرصاص مرهون بمرور عمرٍ بتمامه تحت

نشنكة محارب صلد لا نعني له سوى أنَّا غائرون على دار أبيه وإن تقاعسه خروجاً

على أعراف القبيلة .. وكنا باسمِ الله نسحقه وننسفه ونصرعه لنعبره كجسر يفصل

بيننا وأحلامنا البكر بزفتنا للحور العين، نُحكم قبضتنا بالسلاح وقلوبنا معلقة بجنانِ

الخلد فيتحول صوت الزخيرة لزغاريد في باحةِ عُرس وتفوح من البارود روائح المسك

وتفوح في بعضنا من الدماء..

فجرُ التاسع من سبتمبر يفرك جبين السماء في خمولٍ لتشرق شمسه فاترة مرهقة التفاصيل

وكأنها آتية من رحمِ غيبٍ سحيق.. "هـــــــــاهـ .. توبــــــــــــاه" أول صوت فجراوي تكاد

أن تفلت أطرافه من مسامعنا لولا الهدوء الذي يسود المكان وقلة عمرانه فأدرك أنه طابور

العساكر لرفع تمام الصباح .. كان هذا اليوم السابع في الأسر وأكاد لا أصدق أني لا زلت

على قيد الحياة فعند بذوق كل فجر تعلن ذخيرة آسرينا عن موت أثنين أو ثلاثةٌ من رفاقنا

ولم يظل على قيد الحياة غيري وصديقي سمير السوداني الأصل من جهة أبيه وإريتري من

ناحية جدته لأمه.

يرجع الفضل في بقائنا على قيد الكلام ذاك السجان "إليكو" برتبة ملازم إذ كان وأسرته

يقيمون على مقربةٍ من مكان أسرنا وكان المشرف على بعض مستودعات الذخيرة وعلى

تصفيتنا برغم عدم الرضا الذي نراه واضحاً في عينيه للأخيرة، أنقضت ستة أشهر وقد

اختارنا خلالها "إليكو" أنا وسمير لنبقى في خدمته وعساكره في هذا المكان لحين النظر

في أمر تصفيتنا، كان رحيماً بنا هذا الرجل برغم مسيحيته غير الراسخة فقد قدم لنا مصحفين

خلسة دون أن يلحظه جنوده وكان يتعمد احتكاكنا بأسرته الصغيرة وقد حدثنا عن أن اثنين من

أبنائه ولد وبنت قد بعث بهما لخاله بالخرطوم لتلقي تعليمهم ولم يرهم منذ سنين.

أوان مساء في ردهة استقبال فندق "إمبيريال" وبنايته في عنفوان شبابها وقتئذ والنيل فتياً يمر

بمحاذاته والكهارب تضفي منظراً أنيقاً على كوبري حنتوب .. أقمت يومين بهذا الفندق حيث كان

يعمل به صديقي الجميل "سمير" وخطيبته وبنت خالته المناضلة الآتية من "إريتريا"

والتي حولت أسمها إلى "ملكة" فقدما لي "تريزا الجنوبية" القادمة من الشجرة الخرطوم –

وذلك لثقة سمير بمعرفتي بأبناء الجنوب وعلاقتي الحميمة بهم في هذه النواحي، ثم أضاف أن

"تريزا" تبحث عن أخاها المفقود والذي لسبب من الأسباب يطرأ عليه جنون مؤقت ففي آخر

نوباته غادر البيت ولم يعد منذ شهر وآخر الأنباء حوله أنه متواجد مع مجموعة جنوبيين يقطنون

على ضفاف النيل عند هذه المدينة. وبعدها بأيامٍ قليلة كنت أنا و"تريزا" وأخاها المفقود

"الصادق إليكو" بمنزلهم بالشجرة فرقصت وسط أهلهم على إيقاع النقارة ومهرجان واحتفال

جنوبي لأجمل من قابلت من مثقفي جنوبنا بعودة أبنهم ..

رقصت معهم بإخلاص كما فعلت تريزا أيضاً .. فتراى لي فيما يرى الرآئي بأني أحمل حربة

أرتدي الـ (ضوك) وتريزا بفتنتها في مواجهتي تلبث الـ (بونك) وخصرها مطوق بألوان

السكسك الزاهية يكشكش بإيقاع منتظم وأنا أضرب الأرض برجلي كما

(أشوانق .. ودينق .. وشول) وكأنما في غمرة موسيقانا نبتهل لتوحيد قبائل النايلوت

السوداني من دينكا ونوير وتبوسا وشلك.يعانقني أحدهم بجسمه الطويل الناحل وتبلل دموعه

كتفي .. لم أتوقع بعد هذه السنوات يا "إليكو" أن نلتقي هنا وبمثل هكذا صدف مرتبة وفق أقدار

محكمة !!.

في ذات المكان وبعد ستة أشهر وكأن هذه المدة قدري المرهون بتغيير أحوالي إذ قضيتها

برفقة تريزا فمحت بها عن ذاكرتي كل أهوال الحرب، تقف أمامي بقوامها الفارع وفتنتها

الأبونسية والناب العاجي الصغير معلق بقيطانه الأحمر الغاني حول جيدها يتأرجح على

صدرها مع إيقاع بكائها .. تعانقنا كما لم نفعل من قبل فقد أذن الرحيل بعد أن توحدت القلوب

لتنفصل الجغرافيا بفعل الساسة ولكم وطنكم ولي وطن وتظل القلوب يا اليكو كأجمل

الأوطان تسع الجميع.

(تمــت)

قمه الإبداع والروعة
الأخ الجميل سوباوى
وماتحرمنا من مثل هذه السمفونيات الخالدات كما النيل
ليت الأوطان تسع الجميع
تقبل مرورى

تنفجر وتفجر كل حين اهازيج
ترنو دائما الى شواهق الواقع هذا الخيال
فتصيبنا بنوبة الاندهاش وتتصلب شرايين الكلمة هنا
لا شئ يتكلم سوى الصمت الرهيب
وانا فيك تتعثر خطاى وينكسر فيا الامل
ونغنى ليت وليت
سوباوى لك الود